info@assayad.com     +971 2 443 7475     +971 777 55 33
العدد 3907
 - 
السبت ٢٠ - أبريل - ٢٠٢٤ 
ABU DHABI
ABU DHABI
السبت ٢٠ - أبريل - ٢٠٢٤  /  العدد 3907
الأرشيف
تابعونا على فيس بوك
تابعونا على تويتر
وجهات نظر
بقلم سمير عطالله
الخوف من الخيال ومن التخيُّل

لقد أصبحنا مثل جمهوريات الخوف.. الخوف من كل شيء.. من جهنم، ومن الحرب الأهلية التي يتحدث عنها سياسيو الزمان وكأنهم يعدوننا بالجنة، ومن البطالة التي لا ينفع فيها سلاح، ومن الفقر الكاسر مثل إعصار أو تنين، ومن سعر الليرة مقابل عملات الدول التي تحلم بالهجرة إليها.. ومن آخر الشهر، أو أوله.. ومن البنوك.. ومن الأوبئة.. ومن السفر إلى الكونغو من أجل العثور على البانادول.. ومن موعد نشرة الأخبار.. ومن "ملحق" الأخبار بلا موعد.. ومن أسعار البقالة.. ومن المضاربة في سوق السردين والتونة.. ومن سمعتنا بين الشعوب.. ومن فقدان جميع المراتب، إلا مرتبة الفساد.. ومن أن نجد أنفسنا بلا منافس في عالم الانهيار والفشل والأكاذيب.. ومن منع أغنية وديع الصافي "لبنان يا قطعة سما".. ومن أن يباع ما تبقى من قطعة بالقطعة.. ومن أن يبكّر المسيح الدجال في الظهور.. ومن نوعية الحكومة المقبلة.. ومن أن تأتي النوعية وتبقى الحكومة في دائرة التفاهة الرقمية والخوف على الأمن الذي قال الرئيس ميشال عون، بداية عهده، "جبناه للبلد".. الخوف من البواخر محملة فيولاً فاسداً، أو "نيترات بكامل قدرتها".. الخوف من أن يعود العدّ، ليس بين المواطنين، بل بين الوزراء، ثم أن يتوقف وتقف معه الحياة عند الرقم 19 بدل 18 و21 بدل 20.. و RIEN NE VA PLUS .
منذ سنوات طويلة يتصل بي صديق حبيب، بادئاً المكالمة بلازمة لطيفة لا تتغير: كيف حال الدنيا عندكم؟ والإجابة دائماً ملاطفة، مهما كان الحال والمحال: الحمد لله.. لكن بعد 4 آب لم يعد الجواب كافياً.. ولذا، كان جوابي "أمس" أن الدنيا تدور في كل مكان، إلا على خط الطول والعرض هنا.. الدنيا تدور وتميل على حافة القطب، وهنا واقفة.. هنا مسكرة.. هنا الدنيا مجمّدة على قفاها، وكل شيء آخر يتحرك في أرجاء العالم.
وأقول للصديق الحبيب: هل تدري أين هو المضحك في الأمر؟ أن الناس تتمنى وتتضرع أن تدور بنا الدنيا إلى الخلف.. لقد أصبح ماضينا وراءنا، ومستقبلنا أيضاً.. بعد مقالة "الأسبوع الماضي" عن الشبه بيننا وبين تونس، علّق البعض بأن في ذلك ظلماً لتونس.
روى الدكتور كرم كرم أنه كان مرة في زيارة الحبيب بورقيبة ضمن وفد جامعي، عندما سرت في القصر الجمهوري ضجة وجرى همس لفترة قصيرة، وبعدها عاد الهدوء.. وعرف المشاركون في ما بعد أن الرئيس اُبلِغ بأن الدرك أوقفوا سيارة التونسية الأولى، بسبب السرعة.. وعندما تبيّن لرئيس الدورية أن صاحبة السيارة هي وسيلة بن عمار، أدّى التحية.. واعتذرت الوسيلة بداعي أنها ذاهبة الى المطار.. فاعتذر هو بدوره عن أنه مضطر الى كتابة محضر ضبط، لأن موقعها لا يجعلها فوق القانون.. وعندما اُبلِغ بورقيبة بالأمر طلب الترقية الفورية للرجل.
كيف حال الدنيا عندنا..؟ هل حقاً لا تعرف..؟ الدنيا كلها تعرف وتتمنى لو أنها لا تعرف.. نحن في دائرة التعاسة، وكل الأبواب والطرق والنوافذ مغلقة.. كم جميل كان الأمس.. هل تصدق أن الناس تتشهى، في صوت عال، "أيام الحرب"، وتتمنى أن تعود بنا الدنيا الى أيام السكينة والكفاية والهناء؟ هل أخبرك أننا بلد من الكرتون؟ لا. ليس بالمعنى الرمزي.. كرتون ملء عين الزمن.. كيفما تلفتَّ ترى كراتين المساعدات.. والأقل حظاً تراهم في أكياس البلاستيك.. والذين كانت نفوسهم تأبى قبول المساعدات في بيوتهم، صاروا يصطفّون في الطوابير لتسلّمها.. هل تريد أن أصف لك أية مشاعر يثيرها في النفوس مشهد الطوابير، أو أن أخبرك بأن أجر الحد الأدنى نزل من 450 دولاراً إلى سبعين؟ والحكومة تعرض، بكل نبل وسخاء، أن تشارك الناس في أوجاعهم.. أيّ سمو أخلاقي أكثر سمواً من هذا الشعور بالمسؤولية، والمشاركة في الأوجاع؟
والناس تخاف صدور بيان جديد، ينفي، أو يؤكد، أو لا ينفي ولا يؤكد.. و"يكزبر" الأبدان من سماع كلمة بيان، أو كلمة تصريح، أو مؤتمر صحافي يعقد أمام المرآة الرقمية.. المرايا تكسرت، المرايا فقدت هي أيضاً طاقة الاحتمال.
في الماضي كان كذبنا ظريفاً.. قليل من الملح والبهار على طريقة خير هذا بشرّ ذاك وإذا الله قد عفا.. ما أجمله، العفو.. وفي الحديث، أن النبي سُئل، هل هناك ما هو أعظم من العدل؟ فقال، أجل، العفو.. وما أفظع وأكره الانقسام والخوف.. ليس الخوف من الاحتلال الإسرائيلي، ولا الخوف من عجرفة الفدائيين، ولا من حواجز الجيش السوري.. وإنما الخوف من البطالة والفقر وذلّهما.. لا شيء مثلهما يقرض القيم والمجتمع والكرامات.. نحن الآن شعب خائف وحزين.. فقدنا موهبة الفطنة الساخرة، أمام "المرقعة" السمجة.. من زمن جورج نقاش وسعيد فريحة وعمر الزعني ورشدي المعلوف ومارون عبود، إلى زمن عدمية اللمعة والابتسامة وخفة الظل.
كم كان سعيداً ان يكون المرء لبنانياً.. في عز الحرب بعنا الجنسيات، وفي ذروة الشؤم ما زلنا نبيعها.. وبالدولار، وبالتقسيط.. لكن الخوف يدهمنا من أننا فقدنا هذه أيضاً.. أي كل حسنات الماضي.. كيف حال الدنيا عندكم؟ مثلها في كل الإقليم، وفي زمن الوباء والعدوى والجوائح.. هذا زمن كل الأزمان معاً.. ليس الزمن الرديء الذي يرد ذكره في النواح، بل الزمن الأكثر رداءة الذي يخرج من المقارنات الى القياسات.. الى سجلات غينيس ومراثي ارميا.. زمن توراتي تتقدمه فرقة "النوبة" وصناجاتها.. فوق جثث 4 آب ودموعها، طافت جثة العدالة مربوطة بحجر الرحى، عقاب الغرق الأخير.
الأسوأ من الزمن الرديء هو الضمير الرديء.. الضمير العاطل، يسميه الفرنسيون، أو الميت، في لغتنا.. ولا يوقظه شيء.. كان الرئيس سليمان فرنجية يقول "وطني دائماً على حق".. وهو شعار مشابه لفعل الإيمان الوطني عند الإنكليز: "خطأ أو صواب، إنه وطني".. أو للحظة الحقيقة بين يوضاس وبطرس.. الخيانة بالرخص أو بالخوف.. ونحن بلد خائفين.. نخاف أن نفتح الجريدة، أو الإذاعة، أو التلفزيون، وليس فيها ما يفاجىء.. ليس فيها مسرّة واحدة أو فأل واحد أو ابتسامة واحدة.. ونخاف أن نفتح النافذة لكي لا نسمع رأي جارنا "بالوضع"، ووصف جارتنا "للأوضاع".. وأختها.. وأمها.. ومَن يليهما.
الخوف شلل عام.. الخائف لا يفكر، ولا يقرر، ولا يحلم إلا بالهرب مما هو فيه.. وفي النهاية يهرب من ظله لأنه يصبح عبئاً عليه.. والأوطان لا تقوم لها قيامة عندما يطاردها ظلها يسائلها أين الغد، وأين المستقبل، وأين حلاوة الحاضر، وأين التقاعد الذي يشتري منزلاً ولم يعد يكفي لشراء مشاية، واين المشاريع وأين الاعراس، و"ماذا فعلت بالوردة.. ماذا فعلت بالذهب".
* عن الزميلة "النهار" اللبنانية



اخترنا لكم